“يكتب التاريخ من قبل الفائزين”، هذه العبارة الشهيرة والراسخة في الثقافة الفرنسية، للكاتب والصحفي الفرنسي روبرت برازيلياك الذي تساءل بموجبها عن الموضوعية في كتابة التاريخ (في كتابه الأشقاء الأعداء، 1944)، يمكنها أن تلخص بشكل واضح الأزمات المتكررة بين الجزائر وفرنسا حول إشكالية الذاكرة التي تطرح بصفة دورية دون الوصول إلى حل قد يفصل نهائيا في هذا الملف الذي لم يسمح بإقامة علاقات طبيعية بين البلدين.
في هذا الطرح الصريح لموضوع يتعلق أساسا ببناء هوية الأمم يبين صاحبه أن التاريخ لا يكتب حتما باحترام القواعد العلمية الدقيقة بقدر ما يخضع إلى توجهات إيديولوجية تبنى عليها “حقائق” الدول. فكتابة التاريخ، هي عمليات سياسية بالأساس ترسم الخطوط العريضة والخطوط الحمراء التي تقيد عمل المؤرخ.
من جهة أخرى، يعتبر روبرت برازيلياك أنه في حالة صراع، فإن التاريخ يكتبه “الفائز” وهنا يكمن لب المشكل فيما يخص الاختلاف العميق بين وجهات النظر الجزائرية والفرنسية. فبينما بنت الجزائر ذاكرتها على فوز تاريخي جعلها مرجعا عالميا في تصفية الاستعمار بتضحيات بطولية يأبى الجانب الفرنسي الاعتراف بالهزيمة، بل لم تعترف رسميا بأن الثورة التي قام بها الجزائريون ضد المستعمر هي “حرب” حقيقية إلا في 1999 أي 37 سنة بعد استقلال الجزائر وما زالت إلى اليوم ترفض حتى فكرة الإقرار ببشاعة ممارسات فرنسا الاستعمارية مفضلة التركيز على العمل الحضاري للاستعمار.
فبين هذه الرؤى المتضاربة لا يمكن على أساسها بناء ذاكرة مشتركة، صريحة ومقبولة من الطرفين وهذا مع أن الجانب الفرنسي عبر رئيسها الحالي إيمانويل ماكرون، يحاول تسويق نيته الحسنة في معالجة إشكالية الذاكرة المشتركة. أمام هذا الوضع لم تبق إلا العدالة وهي أساس العلاقات الصريحة بين طرفين، هي الوسيلة الوحيدة لفض الصراع حول الذاكرة.
فبما أن الجمهورية الفرنسية تغض الطرف عن جرائم الدولة التي اقترفتها في حق الشعب الجزائري طيلة سنوات الاستعمار فيكفيها لإظهار “نيتها الحسنة” أن تتعامل مع القضايا التي قد تطرحها السلطات الجزائرية في محكمة الجنايات الدولية بشفافية وبروح مسؤولية.
إن قوانين هذه الهيئة الدولية التي صادقت عليها البلدان تلغي كل التعاقدات والقوانين الداخلية المعارضة لها، وهي تنص على أن جرائم الإبادة والنقل القسري للسكان، والتعذيب واضطهاد أية فئة أو جماعة محددة من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو اثنية أو دينية تعتبر من الجرائم ضد الإنسانية مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وجلها لا تخضع لأي شكل من أشكال التقادم. وليتذكر الفرنسيون سياسة الأرض المحروقة، جرائم 8 ماي 1945، محرقة أولاد رياح، النقل القسري للمقاومين الجزائريين إلى كاليدونيا، ومعسكرات التجمع لسكان القرى، التعذيب …إلى ملف التجارب النووية في صحراء الجزائر.
ولا يمكن هنا للدولة الفرنسية أن تتنصل من مسؤوليتها المباشرة في هذه القضايا الثقيلة خاصة وأن تقرير لجنة القانون الدولي (الدورة 69 التي انعقدت في 4 أوت 2017 ) دونت صراحة في المادة الـ6 :”…يتحمل الرئيس المسؤولية الجنائية عن جرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها مرؤوسون يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين…”، وهنا ستظهر مسؤولية الجمهورية الفرنسية في الجرائم المقترفة ضد الشعب الجزائري.
وفي هذا الشأن لنا سابقة في اعتراف فرنسا في ماي 2021 بمسؤوليتها في الجرائم ضد الإنسانية التي وقعت في رواندا في 1994 ولم يأت هذا الاعتراف إلا بعد معالجة هذه الأحداث من طرف المحكمة الجنائية الدولية لرواندا، فلم يبق اليوم لوضع حد نهائي للجدال القائم بين الجزائر وفرنسا حول الذاكرة إلا أن يباشر الجانب الجزائري بتقديم ملفاته إلى محكمة العدل الدولية، وهناك ستظهر النوايا الحقيقية لكل طرف.
سمير عزوق