أغنية الرأي

من ملحمة الهامش إلى سنوات الدهشة والحيرة (2 )



...

تأسست فرقة راينا راي من طرف مجموعة من المغنيين والموسيقيين المحترفين بين سيدي بلعباس وباريس، ولعب الثلاثي لطفي عطار وإخوته والهاشمي جلولي ومغني الفرقة قادة ثم فيما بعد الجيلالي، دورا مهما في تطوير أغنية الراي والارتقاء بها الى مستوى جعل منها ظاهرة ذات صيت تجاوز الحدود الجزائرية.. كما ان مهرجان الراي الثاني بوهران في المنتصف الثاني للثنانينيات ومهرجان لوبيني بفرنسا انتقلت بالرأي من الظاهرة المحلية الى الظاهرة الفرانكو-جزائرية .. تزامن هذا الانتقال مع بروز نقاش صاخب الى السطح حول مسائل ذات صلة بالهوية الجزائرية وهوية المغاربة والجزائريين على وجه خاص المهاجرين، او الجيل الجديد من الفرنسيين من ذوي الأصول المغاربية.. وكان هذا الجيل الثاني من الفرنسيين من ذوي الأصول المغاربية يعيش حيرة هويتية ونزاعا وجوديا على مستوى الانتماء الثقافي وقد نعت هذا الجيل بbeur البير، وتجلى ذلك من خلال الكتابات الأدبية والتوظيف المغاير للغة الفرنسية وهي عبارة عن لغة هجينة متمردة مشددة على تميزها عن اللغة الفرنسية الرسمية.. وكان هذا الجيل جيل الضواحي والأطراف يسعى من خلال تمرده اللغوي والثقافي الى تدشين هوية خاصة به، هوية ترفض الذوبان والاندماج الشكلي داخل المجتمع الفرنسي الذي ظل يتعامل مع ذوي الأصول المغاربية على انهم اجانب ونشاهد داخل منظومة الثقافة الفرنسية.. ومن هنا لم يعد الراي تعبيرا عن مهمشي الجزائر وحسب بل اصبح تعبيرا مزدوجا لهذا التهميش، التهميش هنا والتهميش هناك.. ومثلما سعى التيار الليبيرالي في الجزائر الى احتواء الري ودمجه في استراتيجيته الهادفة الى اعادة صياغة المشهد الثقافي والسياسي خدمة لرؤيتها الأيديولوجية والاقتصادية وايضاً لصراعهم ضد المحافظين والإسلام السياسي الشعبوي عند أنصار الهجانة الثقافية في فرنسا الى اعادة انتاج الراي كعنوان جديد لهوية الفرنسيين من ذوي الأصول المغاربية وذلك من احل تنشيط عملية الإدماج ضمن الرؤية الكوسموبوليتية للمواطنة الفرنسية التي لا تشمل الثقافة والفن وحسب، بل تشمل الدين الاسلامي على الارض الفرنسية ليندمج هو الآخر ضمن الرؤية الفرنسية ذات الطابع العلماني.. وهكذا ركز هؤلاء الادماجيون الجدد على ان يكون راي فرنسي مكمل للإسلام الفرنسي.. وكان استيعاب خالد وإعادة صناعته وفق شروط السوق الفرنسية أحد فرسان هذا الإدماج، وذلك بدء من أغنيته الشهيرة "عيشة" التي كتب نصها احد الأسماء الشهيرة (غوليان) في سوق الاغنية الفرنسية وهو من ذوي أصول يهودية، وانتهاء بأغنية "cest la vie" هاذي هي الحياة، بحيث تمازجت العربية بالفرنسية والأصالة الوهرانية بالحداثة الفرنسية.. وسار على درب الشاب خالد الشاب مامي الى جانب أحد مواليد فرنسا من أصول مغاربية وهو فضيل.. وساعد اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر في بداية التسعينيات بالهجرة شبه الجماعية لعدد من مغني الراي، بحيث حلت باريس ومارسيليا محل وهران وسيدي بلعباس لتصبح هي العاصمة الحقيقية للراي وتحول الراي من سلعة جزائرية محلية الى سلعة عالمية ذات رواج كبير انطلاقا من أغنية "ديدي" لخالد لينتشر في السوق العربية والإفريقية والآسيوية والأمريكية .. وفي الوقت الذي اصبح الراي ذو الصبغة العالمية يعيش مغامرته الجديدة، راح يبتعد شيئا فشيئا ليس فقط عن أصوله بل عن بيئته الحقيقية، لكن ذلك لم يحل دون انبثاق طريق محلي آخر للراي، راي اتصف بازدواجية لافتة تراوحت بين النزعة العاطفية الرومنسية القائمة على العنف المضاد والحثالة اللغوية، ويعتبر حسني شقرون المدعو الشاب حسني، ممثل تيار النزعة العاطفية لأغنية الراي بامتياز وهو من مواليد شهر شباط 1968 وقتل عن عمر يناهز السادسة والعشرين في حيه قومبيطا بوهران في عام 1994 على يد مجموعة إسلامية مسلحة وهي سنة شكلت ذروة الحرب الأهلية في الجزائر.. في خضم الحرب الأهلية وشراسة المد السلفي الجهادي وتعرض المؤاخاة الجزائرية الى تمزق تراجيدي وحقيقي وانهيار مشاريع الأمل وسيادة الذعر والرعب وتحول مستقبل الجزائريات والجزائريين الى مشهد غامض وشديد العتمة وطغيان خطاب الكراهية المتعددة ووصول الدولة الوطنية الى هاوية التداعي والتفكك بزغ هذا التيار من داخل أغنية الراي حيث تحول الحب الى قلعة في مواجهة ذلك الخواء المزعج ودياجي القلق التي راحت ترخي باسدالها في أعماق ذلك الليل الجزائري الطويل.. كانت تلك الأغاني التي انتشرت في أوساط الشباب البائس الذي وجد نفسه ضحية حرب غامضة وعبثية مثل انتشار النار في الهشيم، كانت أغاني حسني تشيد بحياة تموقعت فوق موج الكراهيات والحب هنا برغم مسحته الرومنسية كان محاولة عنيدة لإعادة ترميم الحياة بكل ما تحمله من نقاء وتوق إنساني الى التوحد، تحولت الحبيبة الى بديل حقيقي لوطن ممزق سكنته الحرب حتى النخاع، وكانت الحبيبة من لحم ودم يتلاقى فيها كل تلك الرغبة الجامحة المليئة بإرادة العيش، لم تكن الحبيبة مجرد حلم هلامي بل حقيقة ملموسة، جسد يتحرك، يتنفس، يشرق بأشعته الباعثة للدفء والأمل والقدرة على التهكم من مجانين الحكم والدين.. في الوقت الذي انكمشت الاغنية على نفسها، وتدثرت النخب بخوفها وصمتها امتلكت الاغنية الرايوية العاطفية ليس فقط قلوب الشباب بل الفضاء الذي يرفض الإذعان لمنطق الخوف والموت.. لقد كان الغياب والشوق الى الحبيبة والإصرار على الرحال لملاقاتها يمثل الحلم المجنون الذي راح يتشكل من قلب هذه الفئة الشبانية الجديدة التي فتحت عيونها على حرب لم تكن لتعطيها برغم أنها كانت ضحية لها.. مقابل الأخبار الناقلة بشكل يومي للموت والاقتتال والفراق والتردد على المقابر لدفن الأحبة والجيران، كانت أغنية الراي العاطفية تطرح نفسها في ركام ذلك الصمت كبديل إنساني من خلال لغة شعرية شفافة جعلت من اليومي الحميمي طريقها الى تحقيق سعادة فردية امام الجنون الجماعي.. لقد واجهت الحرب والإرهاب على طريقتها، ليس بالكراهية بل باقتراح الحب وتعميمه وبالتالي تجاوز كب ما كان ينزع الى انتزاع تلك الآدمية التي ظلت قلقة للمقاومة المتواضعة.. ان رومانسية راي حسني كانت نابعة من بل الأحياء المدينية الشعبية ومشكلة في الوقت نفسه من الحب خطابها الجديد، خلال متوجه الى قلب الانسان مادام العقل قد دخل في حالة إفلاس واستقال من وظيفته.. لقد تحول حسني من مغني باعث لروح الرومانسية الانسانية الى قديس حقيقي احتل قلوب الشباب الجزائري وكان يوم مقتله بمثابة نهاية هذا الحلم، حلم تجاوز الموت ومنطق البرابرة الجدد.. انطفأت جمرة هذا الحلم بمقتل حسني لينبعث تيار جديد او نزعة أخرى داخل أغنية الراي وهي نزعة قامت على صناعة خطاب عنفي مضاد.. مثلها مغنون أمثال المازوني والشابة جنات وشكلت عودة الى بدايات الراي الاولى وذلك في توظيف اللغة الصادمة كتعبير عن رفض مطلق وجذري للمجتمع المعترف به وسيادة منظومته الأخلاقية.. وفي الحقيقة ان الارتداد الى مثل ذلك الوضع كان يعكس حالة تفكك البني الاجتماعية لكن أيضاً الأخلاقية في ظل تعاظم المذابح التي وصلت حد الإبادة لمئات القرويين والناس العزل على يد جماعات مسلمة غامضة الهوية.. لقد وصل اليأس بقطاع كبير من الجزائر الى الاستسلام لممثل هذه الأقدار التي راح يصنعها العنف والعنف المضاد غير تلك العسكرة لحياة الأفراد والجماعات وفي ظل تلك الظروف تحولت حياة السراديب الى العالم الحيوي الذي راح يتنفس فيه هذا النوع من الراي العنيف لم يعد الجسد في متنه الا مرادف للعنف نفسه، مرادفا بليغا لكن في نفس الوقت مخربا كذلك النظام الرمزي الذي أصبح في نظر مغنيي هذه النزعة متهما ومطالبا بالزوال باعتباره مصدر الشقاء الجحيمي الذي أصبح يعذبهم ليل نهار.. وأهم ميزة مثلت هذا التيار هو تحرره ليس فقط من المحظورات التقليدية، بل تجاوزها الى المحظورات التي ظلت لوقت طويل في طي الصمت بالنسبة لراي الثمانينيات أو ما قبله، منها المثلية الجنسية، حيث راح هذا التيار لا يغني فقط المثلية الجنسية والتغزل بالحبيب الذكر بل مكن المثليين ليصبحوا نجوما ويغنون حياتهم الجنسية والغرامية دون الخضوع لأي رقيب.. ويعتبر هواري منار ومقلدوا الشاب عبدو من أشهر ممثلي هذه الموجة من الري العنيف او الهارد-راي.. + راي الأزمة أم أزمة الراي؟! كثيراً ما ربط الانتروبولوجيين حميدة بن نعوم ومسعود بن يوسف بين الراي وجذوره الهلالية اي بداوته العربية العنيفة وذلك من خلال الصلة القديمة بينه وبين الشعر الشعبي المسمى بالشعر الملحون واعتبر نتاجا من نتاجات الأزمة الجزائرية عبر مختلف الأعقاب مرورا باللحظة الكولونيالية التي دخلت في ظلها بنى المجتمع الجزائرية في أزمة عميقة تتخللها الصراع بين القيم التقليدية وقيم الحداثة.. ان الراي كجزء ما ثقافة الهامش يكون قد عبر بشكل أكثر تعقيدا عن حالة الصراع المجتمعي الجزائري لكن هذا الصراع لم يتخذ شكلا واضحا ودقيقا في فترة بناء الدولة الوطنية وما حدث من نزاع حول مسألة تحديد الهوية الجزائرية وظل ذلك في العموم خاضع للعبة السياسة وتجاذباتها الأيديولوجية، ولهذه الأسباب ربما ظل الراي برغم افتخار الجزائريين بالعالمية التي اصبح يحظى بها يشكل جدلا بين مناصريه وخصومه وتيار الوسط الذي يدعو الى اخلقته أي اعادة صياغته وفق منظور الأخلاقية الرسمية وهذا ما ظهر جليا في المهرجانات الخاصة به والتي تشرف عليها وزارة الثقافة الجزائرية بحيث تحول تارة الى الاغنية الوهرانية وتارة اخرى الى راي بلادي في مهرجان سيدي بلعباس، بحيث ركز المنظمون على ادراج انواع اخرى من الأغاني في هذا المهرجان، كأن المنظمين يحاولون الاعتذار عن تلك التهمة التي ظلت تلاحقه برغم الشعبية التي بات يحظى بها وهي "اللاأخلاقية" إن الراي من وجهة نظر نقدية ظل التعبير الفصيح عن الأزمة الجزائرية للدولة الوطنية التي لم تستجب الى يومنا الى دعوة رسملة التعدد الثقافي بالجزائر وصلت الى حد بعيد مائلة الى النزعة شبه الاحتكارية للهوية والثقافة الوطنيتين مختصرة في الوقت نفسه لكل ما يشكل الهامش الثقافي لكن من جهة أخرى ان الراي خلال العشرين السنة الاخيرة يكون قد دخل في أزمة خاصة به بحيث وقف غير قادر على تجاوز حدوده القصوى بحيث توقف ملوكه وأمراءه عند حدود التسعينيات ولم يتمكنوا من أنحاء جمالية جديدة متجاوزة للجمالية التي تم انجازها.. ولذا فرغم أغنية خالد cest la vie التي لاقت رواجا كبيرا الا ان ما يلاحظ هو العودة الى اجترار الراي الثمانيني دون تحقيق اضافة نوعية تذكر.. وقد يقول قائل أن سبب ذلك يرجع الى الحدود المعرفية لفاعلي الراي، لكن قد يعود ذلك الى صعود وطغيان النزعة التجارية التي جعلت من الراي رهينة للسوق وجاذبية الميديا التي لم تعد تهتم الا بما هو سريع الاستهلاك وزائل..


Lire la suite sur الحياة.

Publier des annonces gratuites

Petites annonces Babalweb Annonces

Publier une annonce gratuite

Autres sites

Sciencedz.net : le site des sciences
Le site des sciences en Algérie


Vous cherchez un emploi? Essayer la recherche d'emploi en Algérie
Babalweb Annonces Babalweb Annonces
Petites annonces gratuites